الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} يقول الحق جل جلاله: {إنما مَثَلُ الحياةِ الدنيا} في سرعة تقضيها، وذهاب نعيمها بعد إقبالها، واغترار الناس بها، {كماء أنزلناه من السماءِ فاختلط} أي: اشتبك {به نباتُ الأرضِ} حتى اختلط بعضه ببعض، {مما يأكلُ الناسُ والأنعام} من الزرع والبقول والحشيش، {حتى إذا أخذت الأرضُ زخرفها} أي: زينتها وبهجتها بكمال نباتها، {وازّينتْ} أي: تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة؛ كعروس أخذت من ألوان الثياب والحلي فتزينت بها. {وظن اهلُها} أي: أهل الأرض {أنهم قادِرُون عليها} متمكنون من حصدها ورفع غلتها، {أتاها أمرُنا} أي: بعض الجوائح، كالريح والمطر، {ليلاً أو نهار فجعلناها} أي: زرعها {حصيداً}: شبيهاً بما حصد من أصله، {كأن لم تَغنَ}: كأن لم تُقم {بالأمس}، أو كأن يغن زرعها، أي: لم ينبت. والمراد: تشبيه الدنيا في سرعة انقضائها بنبات اخضرَّ ثم صار هشيماً، {كذلك نُفَصِّلُ الآيات لقوم يتفكرون} ويتدبرون عواقب الأموار، فيعلمون أن الدنيا سريعة الزوال، وشيكة التغير والانتقال، فيزهدون فيها ويجعلونها مزرعة لدار السلام، التي هي دار البقاء. وهي التي دعا إليها عبادة بقوله: {والله يدعو إلى الدار السلام} أي: السلامة من الفناء وجميع الآفات، أو دار الله الذي هو السلام. وتخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك، أو دار يُسلم اللهُ والملائكةُ فيها على من يدخلها، وهي الجنة، {ويهدي من يشاء} توْفِيقَه {إلى صراط مستقيم}، التي توصل إليها وإلى رضوانه فيها، وهو الإسلام والتدرُّع بلباس التقوى، وفي تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المُصِرّ على الضلالة لم يرد الله رشده. قاله البيضاوي. الإشارة: ما ذكر الحق تعالى في هذا الآية هو مثال لمن صرف همته إلى الدنيا، وأتعب نفسه في جمعها، فبنى وشيد وزخرف وغرس، فلما أشرف على التمتع بذلك اختطفته المنية، فلا ما كان أمَّل أدرك، ولا إلى ما فاته من العمل الصالح رجع. وفي بعض خطبه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «أما رأيتم المؤاخَذين على الغرة، المزعَجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسلُ ربهم، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا، ولا ما فاتهم رجعوا، قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم». وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «لا تخدعنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات عالية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب ولاقى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه». ورُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: شهدت مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل أبيض، حسن الشعر واللون، فقال: السلام عليك يا رسول الله، قال: «وعليك السلام». قال: يا رسول الله، ما الدنيا؟ فقال: «حلم النائم، وأهلها مجازَون ومعاقبون». قال: يا رسول الله، فما الآخرة؟. قال: «الأبد، فريق في الجنة، وفريق في السعير» قال: يا رسول الله، فما الجنة؟ قال «ترك الدنيا بنعيمها أبداً» ثم قال: فما خير الأمة؟ قال «الذي يعجل بطاعة الله» قال: فكيف يكون الرجل فيها؟ أي في الدنيا قال «متشمراً كطالب قافلة» قال: وكم القرار بها؟ قال «كقدر المتخلف عن القافلة» قال: فكم بين الدنيا والآخرة؟ قال «كغمضة عين». ثم ذهب الرجل فلم يُر، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل أتاكم يزهدكم في الدنيا». وقال الورتجبي عند قوله: {والله يدعو إلى دار السلام}: الله تعالى يدعو العبادَ من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية، لئلا يفتتنوا بزخرفها وغرورها، وليصلوا إلى جواره، ونعيم مشاهدته. ه. قال المحشي: قلت: وذلك أن أعلى اللذات التحقق بصفات الربوبية، وهي محبوبة للقلب والروح بالطبع، لما فيه من المناسبة لها. ولذلك قال {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، ثم المناسب إنما هو بقاء لا فناء وعز لا ذل فيه، وغنى لا فقر فيه، وكمال لا نقص فيه، وأمن لا خوف فيه، وهذا كله من أوصاف الربوبية، وحق كل عبد أن يطلب ملكاً عظيماً لا آخر له، ولا يكون ذلك في الدنيا لانصرافها وشوبها بآلام مكدّرات، وإنما ذلك في الآخرة ولكن الشيطان بتلبيسه وحسده يدعو إلى ما لا يدوم من العاجلة، متوسلاً بما في الطبع من العجلة، والله يدعو إلى المُلك الحقيقي، وذلك بالزهد في العاجل والراحة منه عاجلاً، ليكون ملكاً في الدنيا، وبالقرب من الله والرغبة في التحقق به وبأوصافه ليكون ملكاً في الآخرة. وفي الطيبي: قيل لابن أدهم: ما لنا ندعو فلا نجاب؟ فقال: لأنه دعاهم فلم تُجيبوه، ثم قرأ: {والله يدعو إلى دار السلام} {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ} [الشورى: 26]. ه.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} يقول الحق جل جلاله: {للذين أحسنوا} فيما بينهم وبين ربهم بتوحيده وعبادته، وفيما بينهم وبين عباده بكف أذاهم وحمل جفاهم، لهم {الحسنى} أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة وزيادة، وهي النظر إلى وجهه الكريم، أو الحسنى: ما يثيب به على العمل، والزيادة: ما يزيد على ما يستحق العبد تفضلاً كقوله {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} [النساء: 173]، أو الحسنى: مثل حسناتهم، والزيادة: التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة أو أكثر، {ولا يرهقُ وجوهَهم:} لا يغشاها {قَتَرٌ}: غبرة فيها سواد تغبر الوجه {ولا ذِلَّةٌ} أي: هوان، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من خزي وسوء حال، {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}: دائمون، لا زوال لهم عنها، ولا انقراض لنعيمها، بخلاف الدنيا وزخرفها فقد تقدم مثالها. الإشارة: للذين أحسنوا بالانقطاع إلى الله والزهد فيما سواه الحسنى، وهي المعرفة، وزيادة، وهي الترقي في المقامات، والعروج في سماء المشاهدات، والازدياد من الأسرار والمكاشفات، وترادف المناجاة والمكالمات ولا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة، بل وجوههم بنور البقاء مستبشرة، وهم خالدون في نعيم الفكرة والنظرة.
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)} قلت: (والذين): مبتدأ على حذف مضاف، أي: جزاء الذين كسبوا، (وجزاء): خبر، أو على تقدير «لهم» أو معطوف على (للذين أحسنوا) على مذهب من يُجوز: في الدار زيد والحجرةِ عمرو. أو (جزاء): مبتدأ، و(بمثلها): خبر، والجملة حينئذٍ كبرى. ومن قرأ (قِطعَاً) بفتح الطاء فجمع قطيع، وهو مفعول ثان، و(مظلماً): حال من الليل، ومن قرأ (قِطعَاً) بالسكون فمصدر، و(مظلماً) نعت له، أو حال منه أو من الليل. يقول الحق جل جلاله: {والذين كسَبوا السيئات} كالكفر والشرك، وما يتبعهما من المعاصي، جزاؤهم {سيئة بمثلها} لا يزاد عليها، فلا تضاعف سيئاتهم، عدلاً منه سبحانه، {وترهقُهم ذِلةٌ} أي: هوان عند حشرهم للنار، {ما لهم من الله من عاصم} يعصمهم من عذاب الله وغضبه، {كأنما أُغشيَت وجوهُهُم قِطعَاً من الليل مظلماً}، أي: يحشرون مسودة وجوههم، كأنما أُكْسِيَتْ وجوههم قطْعاً كثيرة من الليل المظلم، أو قطْعاً مظلماً من الليل {أولئك أصحابُ النار هم فيها خالدون}. قال البيضاوي: هذا مما يحتج به الوعيدية يعني المعتزلة في تخليد العصاة. والجواب: أن الآية في الكفار؛ لاشتمال السيئات على الكفر والشرك، ولأن الذين أحسنوا يتناول الكثير من أهل القبلة، فلا يتناوله قسيمُه. ه. الإشارة: جزاء المعاصي البُعد والهوان، وتسْويد وجوه القلوب والأبدان، كما أن جزاء الطاعة التقريب والإبرار، وتنوير وجوه القلوب والأسرار والإحسان، وفي ذلك يقول ابن النحوي في منفرجته: وَمَعَاصِي اللَّهِ سَماجَتُها *** تَزَدَانُ لِذي الخُلْقِ السَّمِج وَلِطَاعَتِه وَصَبَاحَتِهَا *** أنْوارُ صَبَاحٍ مُنْبَلِجِ قيل لبعض الصالحين: ما بال المجتهدين من أحسن الناس خلَقاً؟ قال: لأنهم خلَوْا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره. ه. نعم، إن صحب المعصية توبةٌ وانكسارٌ، وصحب الطاعة عز واستكبارُ، انقلبت حقيقتهما، فقد تُقرب المعصية وتبعد الطاعة. وفي الحكم: «معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً، وقال أيضاً:» وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول «.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)} قلت: (مكانكم): مفعول، أي: الزموا مكانكم، و(أنتم) تأكيد للضمير المنتقل إليه، و(شركاؤكم) عطف عليه. يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {يوم نحشرهم جميعاً} يعني فريق الحسنى، وفريق النار، {ثم نقول للذين أشركوا} الزموا {مكانَكم} من الخزي والهوان، حتى تنظروا ما يُفعل بكم، {أنتم شركاؤُكم} معكم، تمثيل حينئذ معهم، {فزَيَّلنا}: فرَّقنا {بينهم} وقطعنا الوُصل التي كانت بينهم، {وقال شركاؤهم}، ينطقها الله تعالى تكذيباً لهم فتقول: {ما كنتم إيانا تعبدون}، وإنما عبدتم في الحقيقة أهواؤكم؛ لأنها الأمارة لكم بالإشراك. وقيل: المراد بالشركاء: الملائكة والمسيح. {فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم}، فإنه العالم بحقيقة الحال، {إن كنا} أي: إنه الأمر والشأن كنا {عن عبادتكم لغافلين}، لم نأمركم بها ولم نرضها. قال ابن عطية: وظاهرة هذه الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى، بدليل القول لهم: {مكانكم أنتم وشركاؤكم}. ودون فرعون، ومن عُبد من الجن، بدليل قوله: {إن كنا عن عبادتكم لغافلين}، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم. ه. {هنالك تَبْلُو}: في ذلك المقام تبلو {كلُّ نفس ما أسلفتْ} أي: تختبر ما قدمت من الأعمال خيراً أو شراً؛ فتعاين نفعه وضرره، وقرأ الأخوان: «تتلوا» من التلاوة، أي: تقرأه في صحائف أعمالها، أو من التلوِ، أي: تتبع عملها فتقودها إلى الجنة أو النار. والمعنى: تفعل بها فعل المختبر لحالها المعرّف لسعادتها وشقاوتها، فتعرف ما أسلفت من أعمالها، {ورُدُّوا إلى النار}: إلى جزائه إياها بما أسلفوا، {مولاهُمُ الحقّ} أي: متولِّي أمورهم على الحقيقة، لا ما اتخذوه مَولى بافترائهم، {وضلَّ} أي: ضاع وغاب {عنهم ما كانوا يفترون} من أن آلهتهم تشفع لهم، أو كانوا يدّعون أنها آلهة. الإشارة: من أحب شيئاً كان عبداً له، ومن عبد شيئاً حُشر معه. رُوي: أن الدنيا تبعث على صورة عجوز شمطاء زرقاء، تنادي: أين أولادي وأحبابي؟ ثم تذهب إلى جهنم فيذهبون معها. فمن عبد دنياه وهواه وقف موقف الهوان، ومن أحب مولاه ولم يحب معه شيئاً سواه، وقف موقف العز والتقريب في مواطن الإحسان. فهناك تفضح السرائر، وتكشف الضمائر، وتظهر مقامات الرجال، ويفتضح من أسر النقص وادعى الكمال فيرتفع المقربون إلى شهود مولاهم الحق، ويبقى المدعون مع حظوظهم في حجاب الحس والخلق. والله تعالى أعلم.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)} يقول الحق جلاله: {قل} لهم: {من يرزقُكُم من السماء} بإنزال الأمطار، وإنبات الحبوب، فإن الأرزاق تحْصل بأسباب سماوية ومواد أرضية، أو من كل واحد منهما؛ توسعة عليكم، أو من السماء لأهل التوكل، {و} من {الأرض} لأهل الأسباب. وقل لهم أيضاً: {أمَّن يملك السمعَ والأبصارَ} أي: من يستطيع خلقهما وتسويتهما، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتهما، وسرعة انفعالهما من أدنى شيء، أو مَن أمرهُما بيده، إن شاء ذهب بهما؟ وقل لهم أيضاً: {ومن} يقدر أن {يُخرج الحيَّ من الميت ويخرجُ الميت من الحيَّ}، فيخرج الحيوان من النطفة من الحيوان؟ وهكذا. وقل لهم أيضاً: {ومن يُدبَّرُ الأَمرَ} أي: ومن يلي تدبير العالم، من عرشه إلى فرشه؟ وهو تعميم بعد تخصيص، {فسيقولون الله}، لا محيص لهم عن الإقرار بسواه؛ إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك؛ لفرط وضوحُه. {فقل أفلا تتقون} عقاب الله وغضبه؟ بسبب إشراككم معه ما لا يشاركه في شيء من ذلك، {فذلكم الله ربكم الحقُّ} أي: المتولي لهذه الأمور هو ربكم، الذي يستحق أن تعبدوه، الثابت ربوبيته، لأنه هو الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم، دون من تعبدوه، الثابت ربوبيته، لأنه هو الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم، دون من تعبدونه من الأوثان. {فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال} أي: ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله وقع في الضلال. قال ابن عطية: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحقّ فيها في طرف واحد، لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال تعالى فيها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]. ه. {فأَنَّى تُصرَفُون} عن الحق إلى الضلال. {كذلك حقت كلمة ربك من الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون} أي: كما حق الحق في الاعتقادات؛ {كذلك حقتْ} أي: وجبت وثبتت {كلمةُ ربك} في اللوح المحفوظ {أنهم لا يؤمنون}، وذلك في قوم مخوصين. قال البيضاوي: أي: كما حقت الربوبية لله، أو أن الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق، كذلك حقت كلمة الله وحكمه، {على الذين فسقوا}: تمردوا في كفرهم، وخرجوا عن حد الإصلاح {أنهم لا يؤمنون}، وهو بدل من الكلمة، أو تعليل لها، والمراد بها العِدَة بالعذاب. وقرأ نافع وابن عامر: «كلمات» بالجمع هنا، وفي آخر السورة، وفي غافر. ه. الإشارة: قل من يرزقكم من سماء الأرواح علوم الأسرار والحقائق. ومن أرض النفوس علوم الشرائع والطرائق؟ أمَّن يملك السمع والابصار فيصرفهما إلى سماع الوعظ والتذكار، ونظر التفكر والاعتبار؛ ليلتحق صاحبهما بالمقربين والأبرار، وقدَّم السمع لأنه أنفع لإيصال النفع إلى القلب من البصر. أم من يخرج الحي من الميت، فيخرج العارف من الجاهل، والذاكر من الغافل، أو يخرج القلب الحي من الميت؛ بحيث يحييه بالمعرفة بعد الجهل؟ ومن يدبر الأمر لخواص عباده؟ أي: تدبيراً خاصاً، بحيث يقوم لهم بتدبير شؤونهم، حيث لم يدبروا معه. فمن لم يدبر دبر له، فالفاعل لهذه الأمور هو الحق المنفرد بالوجود، فكل ما سواه باطل، كما قال القائل: ألا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللًّه بَاطِلُ *** وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ قال صلى الله عليه وسلم: «أَصْدَقُ كَلِمَةُ قَالَها الشاعِرُ كَلَِمَةُ لَبيدٍ: أَلا كُلُ شيءٍ...» الخ. فكل من صُرف عن شهود الحق إلى نظر السِّوى فهو في ضلال. قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون}، لكن من حقت عليه كلمة الشقاء لا يُؤمن بأهل الفناء والبقاء، فلا يزال في تعب وشقاء؛ إذ لا طريق إلى شهود الحق وإفراده بالوجود إلا بصحبة أهل الفناء والبقاء، الموصوفين بالكرم والجود، واعلم أن كل من لم يصل إلى مقام الشهود، فهو ضال عندهم في مذهبهم، وبالله التوفيق.
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} قلت: من قرأ (يَهَدّي) بفتح الهاء، فأصله: يهتدي، نُقِلت حركة التاء إلى الهاء، وأدغمت في الدال. ومن قرأ بكسر الهاء فعلى التقاء الساكنين، حين سكنت التاء لتدغم. ومن كسر الياء فعلى الاتباع، ومن قرأ بالاختلاس فإشارة إلى عروض الحركة، ومن قرأ: «يهدي» بالسكون، فمعناه يهدي غيره. يقول الحق جل جلاله: {قل} لهم: {هل من شركائكم من يبدأُ الخلقَ} بإظهاره للوجود {ثم يُعيده} بالبعْث. فإن قلت كيف يحتج عليهم بالإعادة، وهم لا يعترفون بها؟ فالجواب: أنها لظهور برهانها وتواتر أخبارها كأنها معلومة عندهم، فلو أنصفوا ونظروا لأقروا بها، ولذلك أمر الرسول بأن ينوب عليهم في الجواب، فقال: {قل اللهُ يبدأُ الخلق ثم يُعيده}: لأن لجاجهم وجحودهم لا يتركهم يعترفون بها، ولذلك قال لهم: {فأنى تُؤفكون}: تُصرفون عن سواء السبيل، و{قل} لهم أيضاً: {هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} بنصب الدلائل، وإرسال الرسل، والتوفيق للنظر والتدبر؟ {قل اللهُ يهدي للحق}. قال البيضاوي: وهدى كما يعدى بإلى؛ لتضمنه معنى الانتهاء، يعدى باللام للدلالة على منتهى غاية الهداية. انظر تمامه. {أفمن يَهدي إلى الحق} وهو الحق {أحقُّ أن يُتبع أمَّن لا يهدي} إلى شيء، فأولى ألا يهدي غيره {إِلا أن يُهدى} ؟ أي: إلا أن يهديه غيره، وهي معبوداتهم، كالملائكة والمسيح وعزير، فلا يستطيعون أن يهدوا أنفسهم إلا أن يهديهم الله. وحمل ابن عطية الآية على الأصنام، وقال: معنى قوله: {أمن لا يهدي إلا أن يهدى} هي عبارة عن أنها لا تنتقِل إلا أن تنقلَ. قال: ويحتمل أن يكون ما ذكره الله من تسبيح الجمادات؛ هو اهتداؤه. ويحتمل أن يكون الاستثناء في اهتدائها إشارة إلى مناكرة الكفار يوم القيامة حسبما مضى في هذه السورة. ه. {فما لكم كيف تحكمون} أي: أيُّ شيء حصل لعقولكم، فكيف تحكمون بشيء يقتضي العقل بطلانه بأدنى تفكر؟. اِلإشارة: في الآية تحريض على رفع عن السِّوى، إلى من بيده البدء والإعادة، والإرشاد والهداية، إلا من جعل على يديه الإرشاد والهداية، وهم الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء، فالخضوع إليهم خضوع إلى الله على الحقيقة، واتباعهم اتباع لله على الحقيقة، وكل من تبع غيرهم فإنما يتبع الظن والهوى دون الحق.
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)} يقول الحق جل جلاله: {وما يتبع} أكثر المشركين في اعتقادهم {إلا ظَنّاً} مستنداً إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق، بأدنى مشاركة موهوبة. والمراد بالأكثر الجميع، أو من ينتسب منهم إلى تمييز ونظر، ولم يرضى بالتقليد الصرف، {إن الظن لا يغنى من الحق}؛ من علم التحقيق {شيئاً}، أو {من} الاعتقاد {الحق شيئاً} من الإغناء. قال البيضاوي: وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب، وأن الاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. ه. وعدم الاكتفاء بالظن إنما هو في الأصول، وأما الفروع فالظن فيها كاف. {إن الله عليم بما يفعلون} هذا وعيد لهم على اتباعهم الظن، وإعراضهم عن النظر والاستدلال، وعلى عدم اتباعهم من يدلهم على الحق. والله تعالى أعلم. الإشارة: الناس على قسمين: أهل تصديق وإيمان، وأهل شهود وعيان. فأهل التصديق والإيمان هم عامة أهل اليمين، وهم أكثر المسلمين من العلماء الصالحين، يستندون في معرفتهم بالله إلى الدليل والبرهان، فتارة يقوى عندهم الدليل فيترقَّون عن اتباع الظن إلى الجزم والتصميم، وتارة يضعف فيرجعون إلى اتباع الظن الراجح. وأما أهل الشهود والعيان، فقد غابت عنهم الأكوان في شهود المكوّن، فصاروا يستدلون بالله على وجوه غيره، فلا يجدونه، حتى قال بعضهم: لو كُلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى اشهده، محال أن تشهده وتشهد معه سواه. وقال شاعرهم: مذْ عَرَفتُ الإِله لَم أَرَ غَيراً *** وَكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ مُذ تَجَمَّعَتُ ما خَشِيتُ افتراقاً *** فَأَنا اليَومَ وَاصِلٌ مَجمُوعُ وقال آخر: عجبتُ لِمْنَ يَنبَغي عَلَيكَ شَهَادَةً *** وَأَنتَ الَّذي أَشهَدتُه كُلَّ شَاهِد وقال في الحكم: «شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله، فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا... فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه!». ولا مطمع لأحد في التطهير من الظنون والأوهام إلا بصحبة شيخ كامل عارف بالله، فيلقي إليه نفسه، فلا يزال يسير به، حتى يقول له: ها أنت وربك، فحينئذٍ ترتفع عنه الشكوك والظنون والأوهام، ويبلغ في مشاهدة الحق إلى عين اليقين وحق اليقين. وأما قول الجنيد رضي الله عنه: (أدركت سبعين صديقاً، كلهم يعبدون الله على الظن والوهم، حتى الشيخ أبا يزيد، ولو أدرك صبياً من صبياننا لأسلم على يديه). فقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: معنى كلامه: أنهم ظنوا وتوهموا أنهم بلغوا إلى مقام النهاية، بحيث لا مقام فوق ذلك، ولو أدرك أحدهُم صبيَّاً لنبههم على أن ما فاتهم أكثر مما أدركوا ولانقادوا له. ه. بالمعنى. والله تعالى أعلم.
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)} قلت: «تصديق»: مصدر، والعامل فيه «كان» محذوفة، أو «أنزل»، و«لا ريب»: خبر ثالث لها، و«من رب العالمين»: خبر آخر، أي: كائناً من رب العالمين، أو متعلق بتصديق أو بتفصيل، و«لا ريب»: اعتراض، أو بالفعل المعلل بهما وهو «نزل» ويجوز أن يكون حالاً من «الكتاب»، أو من الضمير في «فيه»،: و«أم»: منقطعة بمعنى بل مع الاستفهام الإنكاري، و«كيف» خبر كان. يقول الحق جل جلاله: {وما كان هذا القرآنُ أن يفترى من دون الله} أي: صح له أن يفترى من الخلق، إذ لا قدرة له على ذلك، {ولكن} كان {تصديقَ الذي بين يديه} من الكتب، أو: ولكن أنزله تصديقاً لما سلف قبله من الكتب الإلهية، المشهود على صدقها؛ لأنه مطابق لها، فلا يكون كذباً، كيف وهو لكونه معجزاً عيار عليها، شاهد على صحتها؟ {وتفصيلَ الكتاب} أي: وأنزله تفصيلَ ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع، التي تضمنها الكتاب، {لا ريبَ فيه}: لا ينبغي أن يرتاب فيه؛ لما احتفّت به من شواهد الحق، وارتياب الكفار فيه كلا ريب. كائناً {من رب العالمين}، أول نزل منه. {أم}: بل {يقولون افتراه} محمد من عند نفسه؟ {قل فأتُوا} أنتم {بسورةٍ مثله} في البلاغة وحسن النظم، وجودة المعنى، فإنكم مثلي في العربية والفصاحة، {وادعوا من استطعتم}: مَنْ قدرتم عليه من الجن والإنس، يُعينكم على ذلك، {من دون الله} فإنه وحده قادر على ذلك، {إن كنتم صادقين} أنه مفترىً. {بل كذّبوا} أي: سارعوا إلى التكذيب {بما لم يُحيطُوا بعلمه} وهو القرآن، بحيث لم يستمعوه، ولم يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه، حتى يعلموا أحق هو أم لا، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علماً، من ذكر البعث والجزاء، وسائر ما يخالف دينهم، {ولمَّا يأتهم تأويلُهُ} أي: ولم يقفوا بعدُ على تأويله، ولم تبلغ أذهانهم معانيه، أو لم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، حتى يتبين لهم أنه صدق أو كذب، والمعنى: أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى، ثم إنهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه، ويتصفحوا معناه. ومعنى التَّوقع في {لمَّا}: أنه قد ظهر بالآخرة إعجازه؛ لمّا كرر عليهم التحدَّي؛ فزادوا أذْهانهم في معارضته؛ فتضاءلت دونها، أو لمّا شاهدوا وقوع ما أخبر به طبق ما أخبر مراراً فلم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً. قاله البيضاوي. قال ابن جزي: لمَّا يأتهم ما فيه من الوعيد لهم، أي: وسيأتيهم يوم القيامة أو قبله. {كذلك كذَّب الذين من قبلهم} أنبياءهم، {فانظر كيف كان عاقبةُ الظالمين}، فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم. {ومنهم} من المكذبين {من يؤمن به} أي: يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند، أو مَن يؤمن به ويتوب عن كفره، {ومنهم من لا يؤمن به} في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره، أو لا يؤمن فيما يستقبل فيموت على كفره، {وربك أعلم بالمفسدين}: بالمعاندين أو المصرين. الإشارة: إذا تطهرت القلوب من الأغيار، وتصفّتْ من الأكدار، أوحى إليها بدقائق العلوم والأسرار، وما كان لتلك العلوم أن تُفترى من دون الله؛ ولكن تكون تصديقاً لما قبلها من علوم القوم وأسرارها، التي يهبها الله لأوليائه، وفيها تفصيل طريق السير، وما أوجبه الله على المريدين من الآداب، وشروط المعاملة، فمن طعن في ذلك فليأت بشيء من ذلك من عند نفسه، ويستعنْ على ذلك بأبناء جنسه، بل كذَّب بما لم يُحط به علمُه، ولم يبلغه عقلُه وفهمُه، فإن كشفت عند الله الحقائق ظهر تأويل ما ينطق به أهل الحقائق، ومن الناس من يؤمن بهذه الأسرار، ومنهم من لا يؤمن بها ويطعن على أهلها، حتى ربما رموهم بالزندقة لأجلها، وربك أعلم بالمفسدين.
{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} قلت: «من» الموصولة لفظها مفرد، معناها واقع على الجمع أو غيره، فإن عاد الضمير عليها جاز فيه مراعاة المعنى ومراعاة اللفظ، فقوله: {ومنهم من يستمعون} راعى جانب المعنى، وقوله: {ومنهم من ينتظر} راعى جانب اللفظ، فإن راعى أولاً اللفظ جاز أن يرجع إلى مراعاة المعنى، كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ} [محمد: 16] وأما إن راعى أولاً المعنى فلا يرجع إلى مراعاة اللفظ، لأن مراعاة المعنى أقوى. أنظر الإتقان. يقول الحق جل جلاله: {وإن كذبوك}؛ كذبك قومك بعد إلزام الحجة لهم {فقل} لهم: {لي عملي ولكم عملكم} أي: فتبرأ منهم وقل لهم: لي جزاء عملي، ولكم جزاء عملكم، حقاً كان أو باطلاً، {أنتم بريئون مما أعملُ وأنا بريء مما تعملون}، لا تؤاخذهم بعملي، ولا أُؤاخذ بعملكم، ولأجل ما فيه من إيهام الإعراض عنهم وتخلية سبيلهم قيل: إنه منسوخ بآية السيف. {ومنهم من يستمعون إليك} إذا قرأت القرآن، أو علمت الشرائع، ولكن لا يقبلون، كالأصم الذي لا يسمع أصلاً، {أفأنتَ تُسمع الصُّمَّ} تقدر على إسماعهم {ولو كانوا لا يعقلون} أي: ولو انضم إلى مصممهم فَقْدُ عقولهم، فهو احرى في عدم الاستماع. قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام هو فهم المعنى المقصود منه، ولذلك لا توصف به أي: بالاستماع البهائم، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل وتدبره. وعقولهم لما كانت مؤوفة أي: قاصرة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد بعدت أفهامهم عن فهم الحِكَم والمعاني الدقيقة، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق. ه. {ومنهم من ينظر إليك} أي: يعاينون دلائل نبوتك، ولكن لا يصدقون، كأنهم عمي عنها، {أفأنت تهدي العُمْيَ}: تقدر على هدايتهم {ولو كانوا لا يُبصرون} أي: وإن انضم إلى عدم البصرَ عدم البصيرة، فإن المقصود من الإبصار هو الاعتبار والاستبصار، والعمدة في ذلك البصيرة، فإذا فقدت فلا اعتبار ولا استبصار، ولذلك يُحدس الأعمى المتبصر، ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق. والآية كالتعليل للأمر بالتبري. {إن الله لا يظلم الناسَ شيئاً} بسلب حواسهم وعقولهم، {ولكن الناس أنفسَهم يظلمون} بإفسادهم وإهمالها، وتفويت منافعها عليهم. وفيه دليل على أن للعبد كسباً، وأنه ليس مسلوب الاختيار بالكلية، كما زعمت الجبرية، ويجوز ان يكون وعيداً لهم، بمعنى: أن ما يحيق يوم القيامة من العذاب عدل من الله، لا يظلمهم به، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه. قاله البيضاوي. الإشارة: إذا رأى أهل الوعظ والتذكير قوماً غرقوا في بحر الهوى، وأخذتهم شبكة الدنيا واستتحوذت عليهم الغفلة، فذكروهم وبذلوا جهدهم في نصحهم، فلم يقلعوا، فليتبرؤوا منهم، وليقولوا: نحن براءٌ مما تعملون، وأنتم بريئون مما نعمل. ومنهم من يستمع إلى وعظك أيها الواعظ، ولكن لا يتعظ، أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون. ومنهم من يشاهد كرامتك وخصوصيتك ولكن لا يهتدي، فأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون؟ {إن الله لا يظلم الناس شيئاً}، بل في كل زمان يبعث من يذكر ويُدَاوي أمراض القلوب، {ولكن الناس أنفسهم يظلمون}، حيث حادوا عنهم، وأساؤوا الظن بهم، وبالله التوفيق.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} قلت: {كأن لم يلبثوا}: حال، أي: نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة. أو صفة ليوم، والعائد محذوف، أي: كأن لم يلبثوا قبله، أو لمصدر محذوف، أي: حشراً كأن لم يلبثوا قبله. وجملة: {يتعارفون}: حال أخرى مقدرة، أو بيان لقوله: {كأن لم يلبثوا}، أو لتعلق الظرف، والتقدير: يتعارفون يوم نحشرهم: «وإما»: شرط، و{نرينك} فعله، {أو نتوفينك}: عطف عليه. {فإلينا} جواب {نتوفينك}، وجواب الأول محذوف، أي: إن أريتك بعض عذابهم في الدنيا فذاك، وإن توفيناك قبل ذلك فإلينا مرجعهم. يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {يومَ نحشُرهم} ونجمعهم للحساب، فتقصر عندهم مدة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ، {كأن لمْ يلبثوا إلا ساعةً من النهار} يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، أو في القبور؛ لهول ما يرون، حال كونهم {يتعارفون بينهم} أي: يعرف بعضهم بعضاً، كأن لم يتفارقوا إلا قليلاً، وهذا في أول حشرهم، ثم ينقطع التعارف؛ لشدة الأمر عليهم لقوله {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج: 10] {قد خَسِرَ الذين كذَّبُوا بلقاءِ الله} خسرانا لا ربح بعده {وما كانوا مهتدين} إلى طريق الربح أصلاً، أو إلى طريق توصلهم إلى معرفة الله ورضوانه، لترك استعمال ما منحوه من العقل فيما يوصل إلى الإيمان بالله ورسله، فاستكسبوا جهالات أدت بهم إلى الرّدى والعذاب الدائم. {وإما نُرينّك} أي: مهما نبصرنك {بعضَ الذي نَعِدُهم} من العذاب في حياتك، كما أراه يوم بدر. {أو نتوفينَّك} قبل أن نريك {فإلينا مَرجِعُهم} فنريكه في الآخرة، {ثم اللهُ شهيدٌ على ما يفعلون}، فيجازيهم عليه حينئذٍ، فالترتيب إخباري. وقال البيضاوي، تبعاً للزمخشري: ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها، وهو العقاب، ولذلك رتبها على الرجوع بثم، أو مؤدِّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة. ه. {ولكل أُمة} من الأمم الماضية {رسولٌ} يبعثه إليهم، يدعوهم إلى الحق، {فإذا جاء رسولُهم} بالمعجزات «فكذبوه» {قُضِيَ بينهم بالقسط}: بالعدل، فأنجى الرسولَ ومن تبعه، وأهلك المكذبين {وهم لا يُظلمون}، حيث أعذر إليهم على ألسنة الرسل. وقيل معناه: لكل أمة يوم القيامة رسول تنسب إليه. كقوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] فإذا جاء رسلهم الموقفَ ليشهد عليهم بالكفر أو الإيمان {قضي بينهم} بإنجاء المؤمنين وعقاب الكافرين، كقوله {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء وَقُضِيَ بَيْنَهُم} [الزمر: 69]. {ويقولون متى هذا الوعد} الذي تعدنا، استبعاداً له واستهزاء به، {إن كنتم صادقين} فيه، وهو خطاب منهم للنبي صلى الله عليه وسلم. الإشارة: أهل الغفلة إذا بعثوا أو ماتوا ندموا على ما فوّتوا، وقصر بين أعينهم ما عاشوا في البطالة والغفلة، كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار. فالبدار البدار أيها الغافل إلى التوبة واليقظة، قبل أن تسقط إلى جنبك فتنفرد رهيناً بذنبك. فأما أهل اليقظة وهم العارفون بالله فقد حصل لهم اللقاء، قبل يوم اللقاء، قد خسر الوصول من كذَّب بأهل الوصول، وما كان أبداً ليهتدي إلى الوصول إلا بصحبة أهل الوصول. وإما نرينك أيها العارف بعض الذي نعدهم من الوصول لمن تعلق بك، أو نتوفينك قبل ذلك، فإلينا مرجعهم فنوصلهم بعدك بواسطة أو بغيرها. ولكل أمة رسول يبعثه الله يُذكر الناس ويدعوهم إلى الله، فإذا جاء رسولهم قُضي بينهم بالقسط، فيوصل من تبعه ويبعد من انتكبه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)} قلت: قدَّم في الأعراف النفع، وهنا الضر؛ لأن السؤال في الأعراف عن مطلق الساعة المشتملة على النفع والضر، وهنا السؤال عن العقاب الذي وعدهم به، بدليل قوله: {قل أرأيتم أتاكم عذابه}. وقوله: {إلا ما شاء الله} منقطع، ويصح الاتصال، وقوله: {ماذا يستعجل منه المجرمون} وضع المظهر موضع المضمر، أي: ماذا تستعجلون منه؟.. والجملة الاستفهامية جواب الشرط، كما يقال: إن أتيتك ماذا تعطيني؟، أو محذوف، أي: إن أتاكم ألكم منه منعة أو به طاقة فماذا تستعجلون منه؟ وقال الواحدي: الاستفهام للتهويل والتفظيع، أي: ما أعظم ما تستعجلون منه، كما تقول: أعلمت ماذا تجْني على نفسك؟. {أثم إذا ما وقع}، دخلت همزة التقرير على «ثم» العاطفة، أي: إن استعجلتم ثم وقع بكم العذاب آمنتم به حين لا ينفعكم. يقول الحق جل جلاله: {قل} لهم: {لا أملكُ لنفسي ضراً ولا نفعاً}، فكيف أملك لكم ما تستعجلون من طلب العذاب؟ {إلا ما شاءَ اللهُ}: لكن ما شاء الله من ذلك يكون، أو: لا أملك إلا ما ملكني ربي بمشيئته وقدرته، {لكلِّ أمةٍ أجلٌ} مضروب إلى هلاكهم، {إذا جاء أجَلُهُمْ فلا يستأخرون} عنه {ساعةً}، {ولا} هم {يستقدمون} عنه فلا تستعجلوا، فسيحين وقتكم وينجز وعدكم، {قل أرأيتم إن أتاكم عذابُه} الذي تستعجلون {بياتاً} أي: وقت بيات واشتغال بالنوم، {أو نهاراً} حين يشتغلون بطلب معاشكم، {ماذا يستعجل منه المجرمون} ؟ أيّ: شيء من العذاب يستعجلونه وكله مكروه لا يلائم الاستعجال؟ وهو متعلق بأرأيتم، لأنه في معنى أخبروني، و«المجرمون»، وضع موضع المضمر؛ للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء العذاب، لا أن يستعجلوه. قاله البيضاوي. {أثم إذا ما وقع آمنتم به} أي: أثم تؤمنون إذا وقع العذاب وعاينتموه، حين لا ينفعكم إيمانكم، {الآن} أي: فيقال لكم الآن آمنتم حين فات وقته، {وقد كنتم به تستعجلون} تكذيباً واستهزاء، {ثم قيل للذين ظلموا} بعد هلاكهم: {ذُوقُوا عذابَ الخُلد} أي: العذاب المؤلم الذي تخلدون فيه، {هل تُجْزَوْنَ إلا ما كنتم تكسِبُون} من الكفر والمعاصي. الإشارة: لا يشترط في الولي أن يكاشف بالأمور المغيبة حتى يحترز من المكاره أو يجلب المنافع، إذ لم يكن ذلك للنبي، فكيف يكون للولي؟ بل هو معرض للمقادير الجارية على الناس، يجري عليه ما يجري عليهم، نَعْم.. باطنه محفوظ من السخط أو القنط، يتلقى كل ما يلقى إليه بالرضا والتسليم. فمن شرط ذلك فيه فهو محروم من بركة أولياء زمانه. والله تعالى أعلم.
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)} قلت: (أحق): مبتدأ، والضمير فاعله سد مسد الخبر، و(إي): حرف جواب، بمعنى نعم، وهو من لوازم القسم، لذلك يوصل بواوه، فيقال: إي والله، ولا يقال «إي» وحُده. يقول الحق جل جلاله: {ويستنبئونَكَ} أي: يستخبرونك {أحقٌ هُو} أي: ما تقول من الوعد أو ادعاء النبوة، قيل: قاله حيي بن أخطب لما قدم مكة. {قل} لهم: {إي وربي إنه لحقٌّ} أي: العذاب الموعود لحق، أو ما ادعيته من النبوة لثابت، والأول أرجح لقوله: {وما أنتم بمعجزين}: بفائتين العذاب الموعد. {ولو أنَّ لكلِّ نفسٍ ظلمتْ} بالشرك أو التعدي على الغير {ما في الأرض} من خزائنها وأموالها {لافتدتْ به}: لجعلته فدية لها من العذاب، {وأسرُّوا الندامة} أي: أخفى رؤساء هؤلاء الكفار الندامة خوف الشماتة والتعيير من سفلتهم، {لمَّا رأوا العذاب}، أو جميعهم، لأنهم بهتوا بما عاينوا، مما لم يحتسبوا من فظاعة الأمر وهوله، فلم يقدروا أن ينطقوا، وقيل: أظهروها، من قولهم: أسر الشيء: أظهره، ومنه: أسارير الوجه، {وقُضِيَ بينهم بالقسط وهم لا يُظلمون}، ليس تكراراً؛ لأن الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم، والثاني في جزاء المشركين على شركهم. قاله البيضاوي. الإشارة: كثير من الناس من يستخبر عن شيخ التربية، أحق وجوده أم لا؟ إي وربي إنه لحق، ولا يخلو منه زمان، إذ القطب والعدد الذي يقوم الوجود بهم لا ينقطع، والقطبانية لا تدرك من غير تربية أصلاً، وما أنتم بفائتين عنه إن طلبتموه بصدق الاضطرار. ولو أن لكم نفس ظلمت نفسها حيث بقيت بعيبها وغم حجابها حتى لقيت مولاها ما في الأرض جميعاً لافتدت به من البعد وغم الحجاب، وفوات القرب من الأحباب، وقد قضى بين الخلائق بالحق، فارتفع المقربون الذين لقوا الله بقلب سليم، وانحط الغافلون، الذين لقوا الله بقلب سقيم، وندموا على ترك صحبة من يخلصهم من عيبهم، فإن كانت لهم رئاسة علم أو صلاح أضمروا ذلك عمن قلدهم، {ولا يظلم ربك أحداً}.
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)} يقول الحق جل جلاله: {ألا إن لله ما في السموات والأرض} خلقاً وملكاً وعبيداً، يتصرف فيهم تصرف المالك في ملكه، فلا يتطرقه ظلم ولا جور. ويحتمل أن يكون تقريراً لقدرته على الإثابة والعقاب، {أَلاَ إن وعد الله حقٌ} أي: ما وعد به من الثواب والعقاب، لا خلف فيه، {ولكن أكثرهم لا يعلمون} لقصور عقولهم، فلا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، {هو يُحيي ويُميت} يحيي من يريد إظهاره للدنيا، ويميت من يريد نقله للآخرة، {وإليه تُرجعون} بالموت والنشور؛ لأن من قدر على الإيجاد والإعدام في الدنيا قدرعليها في العقبى؛ لأن القادر لذاته لا تزول قدرته، والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبداً ه. من البيضاوي. الإشارة: ما وعد به الحق سبحانه القاصدين إليه من الوصول والمعرفة به حق، إن وفوا بشرطه، وهو صحبة من يوصل إليه، مع الصدق والتعظيم، وإخلاص القصد، هو يحيي قلوباً بمعرفته، ويميت قلوباً بالغفلة والجهل به، وإليه ترجعون، فيظهر العارف من الجاهل والذاكر من الغافل.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} قلت: (بفضل الله) يتعلق بمحذوف، يفسره ما بعده، أي: ليفرحوا بفضل الله، أو بقوله: «فليفرحوا». وكرر قوله: (فبذلك) تأكيداً والفاء بمعنى الشرط، كأنه قال: إن فرحوا بشيء فبهما فليفرحوا. يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الناسُ قد جاءتكم موعظة من ربكم} يعنى القرآن العظيم، {وشفاء لما في الصدور} من الشك والجهل، {وهُدىً ورحمةٌ للمؤمنين} هداية في بواطنهم بأنوار التحقيق، ورحمة في ظواهرهم بآداب التشريع. قال البيضاوي: قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية، الكاشف عن محاسن الأعمال وقبائحها، والراغبة في المحاسن، والزاجرة عن القبائح، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، وهدى إلى الحق واليقين، ورحمة للمؤمنين؛ حيث أنزلت عليهم فنجوا من ظلمات الضلال بنور الإيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان. والتنكير فيها للتعظيم. ه. {قل بفضل الله وبرحمته} أي: بمطلق الفضل والرحمة، {فبذلك فليفْرَحُوا} لا بغيره، أو الفضل: الإسلام، والرحمة: القرآن. وقرأ يعقوب بتاء الخطاب، ورُوي مرفوعاً، ويؤيده قراءة من قرأ: «فافرحوا»، {هو خيرٌ مما يجمعون} من حطام الدنيا، فإنها إلى الزوال، وقرأ ابن عامر: «تجمعون» بالخطاب، على معنى: فبذلك فليفرح المؤمنون، فهو خير مما تجمعون أيها المخاطبون. الإشارة: قد جعل الله في خواصِّ أوليائه موعظة للناس بما يسمعون منهم من التذكير والإرشاد وشفاء لما في الصدور، لما يسري منهم إلى القلوب من الإمداد، وما يكتسبه مَنْ صحبهم من أنوار التحقيق، وهدى إلى صريح العرفان وإشراق أنوار الإحسان، ورحمة بسكون القلوب والطمأنينة بذكر علام الغيوب، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، ففضل الله: أنوار الإسلام والإيمان، ورحمته: أنوار الإحسان، أو فضل الله: أحكام الشريعة، ورحمته: الطريقة والحقيقة، أو فضل الله: حلاوة المعاملة، ورحمته: حلاوة المشاهدة، أو فضل الله: استقامة الظواهر، ورحمته: استقامة البواطن، أو فضل الله: محبته، ورحمته: معرفته. إلى غير ذلك مما لا ينحصر، ولم يقل: فبذلك فلتفرح يا محمد؛ لأن فرحه صلى الله عليه وسلم بالله، لا بشيءٍ دونه.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)} قلت: (ما أنزل): نصب بأنزل أو بأرأيتم؛ لأنه بمعنى اخبروني. يقول الحق جل جلاله: {قل أرأيتم}: أخبروني {ما أنزل الله لكم من رزقٍ} بقدرته، وإن سترها بالأسباب العادية، وقوله: {لكم} دل على أن المراد منه: ما حلّ، ولذلك وبَّخ على التبعيض بقوله: {فجعلتم منه حراماً وحلالاً} كالبحائر وأخواتها، {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139]. {قل} لهم: {آللَّهُ أَذِنَ لكم} في التحريم والتحليل، فتقولون ذلك عنه، {أم على الله تفترون} في نسبة ذلك إليه؟. {وما ظنّ الذين يفترون على الله الكذبَ يوم القيامة}، أيُّ شيء ظنهم يفعل بهم، أيحسبون أنه لا يجازيهم عليه؟ وفيه تهديد عظيم لهم، {إن الله لذو فضل على الناس}، حيث أنعم عليهم بالعقل، وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وشرع لهم الأحكام، {ولكن أكثرهم لا يشكرون} هذه النعمة. قال ابن عطية: ثنَّى بإيجاب الفضل على الناس في الإمهال لهم مع الافتراء والعصيان، والإمهال داعية إلى التوبة والإنابة، ثم استدرك من لا يرى حق الإمهال ولا يشكره، ولا يبادر فيه على جهه الذم لهم، والآية بعد هذا تعم جميع فضل الله، وجميع تقصير الخلق في شكره، لا رب غيره. ه. الإشارة: الوقوف مع حدود الشريعة، والتمسك بالسنة النبوية قولاً وفعلاً، وأخذاً وتركاً، والاهتداء بأنوار الطريقة تخلية وتجلية، هو السير إلى أسرار الحقيقة، فمن تخطى شيئاً من ذلك فقد حاد عن طريق السير. وبالله التوفيق.
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} قلت: الضمير في {منه} يعود على القرآن، وإن لم يتقدم ذكره؛ لدلالة ما بعده عليه، كأنه قال: وما تتلو شيئاً من القرآن، وقيل: يعود على الشأن، والأول أرجح؛ لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء. قاله ابن جزي. قلت: والأحسن أن يعود على الله تعالى؛ لتقدم ذكره قبل، ومن قرأ: {ولا أصغر}، {ولا أكبر} بالفتح فعطف على {مثقال} ممنوع من الصرف، أو مبني مع «لا»، ومن قرأ بالرفع فعطف على موضعه، أو مبتدأ، و{إلا في كتاب}: خبر. يقول الحق جل جلاله: {وما تكون في شأنٍ} أي: أمر من الأمور، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وجميع الخلق، ولذلك قال في آخرها. {ولا تعملون من عمل}، ومعنى الآية: إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، {وما تتلو منه من قرآنٍ} أي: وما تتلو شيئاً من القرآن، أو وما تتلو من الله من قرآن، أي: تأخذه عنه. {ولا تعملون من عملٍ} أي عمل كان، وهو تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم، ولذلك ذكر الحق تعالى، حيث خص بالذكر ما فيه فخامة وتعظيم، وذكر حيث عمم ما يتناول الجليل والحقير، أي: لا تعلمون شيئاً {إلا كنا عليكم شهوداً}: رقباء مطلعين عليه ظاهراً وباطناً، {إذ تُفيضون فيه}: حين تخوضون فيه وتندفعون إليه، يقال: أفاض الرجل في الأمر: إذا أخذ فيه بجد واندفع إليه، ومنه {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198]، {وما يَعْزُبُ عن ربك} أي: ما يغيب عنه {مثقال ذرةٍ}: ما يوازن نملة، {في الأرض ولا في السماء} والمراد: لا يغيب عنه شيء في الوجود بأسره، وخصهما لأن العامة لا تعرف غيرهما. قال في الكشاف: فإن قلت: لِمَ قدَّم هنا الأرض بخلاف سورة سبأ؟ فالجواب: أن السماء قدمت في سبأ لأن حقها التقديم، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادةُ على أهل الأرض. ه. {ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين} أي: اللوح المحفوظ، أو علمه تعالى المحيط، المُبيّن للأشياء على ما هي عليه. الإشارة: هذه الآية وأمثالها هي أصل المراقبة عند القوم، وهي على ثلاثة أقسام: مراقبة الظواهر، ومراقبة القلوب، ومراقبة السرائر. فالأولى للعوام، والثانية للخواص، والثالثة لخواص الخواص. فأما مراقبة الظواهر: فهي اعتقاد العبد أن الله يراه، ومطلع عليه في كل مكان، فينتجُ له الحياء من الله، فيستحيي أن يسيء الأدب معه وهو بين يديه، وفي بعض الأخبار القدسية: «إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخَللُ في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟». وقال عليه الصلاة والسلام «أفضل الناس إيماناً من يعلم أن الله معه في كل مكان» أو كما قال صلى الله عليه وسلم: ورُوي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه مرَّ براعي غنم، فقال له: أعطنا شاة من غنمك، فقال له: ليست لي. فقال له: لصاحبها أكلها الذئب، فقال له الراعي: وأين الله؟!. ورُويَ أن رجلاً خلا بجارية فراودها على المعصية، وقال لها: لا ترانا إلا الكواكب، فقال له: وأين مُكوكُبها؟. وأما مراقبة القلوب فهي: تحقيق العبد أن الله مطلع على قلبه، فيستحي منه أن يجول فيما لا يعني، أو يدبر ما لا يفيد ولا يجدي، أو يهم بسوء أدب؛ فإنْ جال في ذلك استغفر وتاب. وأما مراقبة السرائر فهي: كشف الحجاب عن الروح، حتى ترى الله أقرب إليها من كل شيء، فتستحي أن تجول فيما سواه من المحسوسات، فإن فعلت بادرت إلى التوبة والاستغفار، فالتوبة لا تفارق أهل المراقبة مطلقاً، وقد تقدم في أول سورة النساء بعض الكلام على المراقبة، فمن لم يُحْكِم أمر المراقبة، لم يذق أسرار المشاهدة.
{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} قلت: «الذين آمنوا»: صفة للأولياء، أو منصوب على المدح، أو مرفوع به على تقدير: «هم» أو مبتدأ، و«لهم البشرى»: خبر، يقول الحق جل جلاله: {ألا إن أولياءَ الله} الذين يتولونه بالطاعة، وهو يتولاهم بالكرامة {لا خوفٌ عليهم} من لحوق مكروه، {ولا هم يحزنون} بفوات مأمول. ثم فسرهم بقوله: {الذين آمنوا وكانوا يتقون}، فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو ولي أعني الولاية العامة وسيأتي بقية الكلام في الإشارة إن شاء الله، {لهم البُشْرَى في الحياةِ الدنيا} وهو ما بشّر به المتقين في كتابه، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الحفظ والعز والكفاية، والنصر في الدنيا وما يثيبهم به في الآخرة، أو ما يريهم من الرؤيا الصالحة يراها أو تُرى له. رُوي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو محبة الناس للرجل الصالح، أو ما يتحفهم به من المكاشفات، أو التوفيق لأنواع الطاعات، أو بشرى الملائكة عند النزع، أو رؤية المقعد قبل خروج الروح، {وفي الآخرة} هي الجنة أو تلقي الملائكة إياهم عند الحشر بالبشرى والكرامة. {لا تبديل لكلماتِ الله} أي: لا تغيير لأقواله، ولا اختلاف لمواعيده، واستدل ابن عمر بالآية على أن القرآن لا يقدر أحد أن يُغيره، {ذلك هو الفوز العظيم} الإشارة إلى كونهم مبشَّرين في الدارين، أو لانتفاء الخوف والحزن عنهم مع ما بُشروا به، والله تعالى أعلم. الإشارة: الولاية على قسمين: ولاية عامة، وولاية عرفية خاصة، فالولاية العامة، هي التي ذكرها الحق تعالى: فكل من حقق الإيمان والتقوى؛ فله من الولاية على قدر ما حصًّل منها، والولاية الخاصة خاصة بأهل الفناء والبقاء، الجامعين بين الحقيقة والشريعة، بين الجذب والسلوك مع الزهد التام والمحبة الكاملة، وصحبة من تحققت ولايته. فقد سئل عليه الصلاة والسلام عن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقال: «الذينَ نَظَرُوا إلى بَاطِنِ الدنْيَا، حينَ نَظََرَ النَّاسُ إلى ظََاهِرهَا، واهْتَمُّوا بآجِلِ الدُّنيا حِين اهتَمَّ النَّاسُ بعَاجِلِها؛ فأمَاتُوا منها ما خَشوا أن يُمِيتهم، وتركوا منها ما عملوا أن سيتركُهُم، فما عارضهم من نائلها عارض إلا رفضوه، ولا خادعهم من رفعتها خادعٍ إلا وضعوه، خلقتِ الدنيا في قلوبهم فما يجددونها وخربت بينهم فما يعمرونها، وماتت في صدروهم فما يُحْيونها بل يهدمُونها، فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، نظروا إلى أهلها صرْعى قد حلَّت بهم المَثُلات، فما يرون أماناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يجدون». وفي حديث آخر: قيل: يا رسول الله مَنْ أولياء الله؟ قال: «المتحابَّون في الله» وقال القشيري رضي الله عنه: علامة الولي ثلاث: شغله بالله، وفراره إلى الله، وهمه الله. ه. وقال أبو سعيد الخراز رضي الله عنه: إذا أراد الله أن يوالي عبداً من عباده فتح عليه باب ذكره، فإذا اشتد ذكره فتح عليه باب القرب، ثم رُفع إلى مجلس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا عاين ذلك بقي بلا هو، فحينئذٍ يفني نفسه ويبرأ من دعاويها. ه. فأنت ترى كيف جعل الفناء هو نهاية السير والوصول إلى الولاية، فَمن لا فناء له لا محبة له، ومن لا محبة له لا ولاية له. وإلى ذلك أشار ابن الفارض رضي الله عنه، في تائيته بقوله: فلمْ تهْوَني ما لم تكنْ فيّ فانِيّا *** ولم تَفنَ ما لَمْ تَجتَل فيكَ صُورتي وقوله تعالى: {الذين أمنوا} أي: إيمان الخصوص، {وكانوا يتقون} ما سوى الله؛ فلا يطمئنون إلى شيء سواه، {لهم البشرى في الحياة الدنيا}، حلاوة الذوق والوجدان، مع مقام الشهود والعيان، {وفي الآخرة} بإدراك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر ببال من المعارف والأسرار، فمن أدرك هذا فليوطن نفسه على الإنكار.
{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)} قلت: (إن): استئناف، ومن قرأ بالفتح فعلى إسقاط لام العلة. يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {ولا يحزنُكَ قولُهم} في جانب الربوبية، أو جانبك بالطعن والشتم والتهديد، فالعاقبة لك بالنصر والعز؛ فإن الله يُعز أولياءه، {إِنَّ العزَّة لله جميعاً} أي: إن الغلبة لله جميعاً، لا يملك غيرُه منها شيئاً، فهو يقهرهم وينصرك عليهم، {هو السميع} لأقوالهم، {العليم} بمكائدهم فيجازيهم عليها. الإشارة: الداخل على الله منكور، فكل من رام الخصوصية فليعوِّلْ على الطعن والإنكار، وليتسلَّ بما تسلى به النبي المختار، ولينتظر العز والنصر من الواحد القهار، فإن الأمر كله بيده.
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)} قلت: (وما يتبع): يحتمل الاستفهام، فتكون منصوبة بيتبع، أي، أيُّ شيء يتبعون ما يتبعون؟ إلا الظن، ويحتمل النفي، أي: ما يتبع الذين يدعون الشركاء يقيناً؛ إن يتبعون إلا الظن، أو تكون «إن» تأكيداً لها، و«إلا الظن» إبطال لنفي «ما». يقول الحق جل جلاله: {ألا إن لله مَن في السماوات ومن في والأرض} من الملائكة والثقلين ملكاً وعبيداً، فلا يصلح أحد منهم للألوهية، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات لا تصلح للربوبية، فأحرى الجامدات التي يدعونها آلهة، {وما يتبعُ الذين يدعُون من دون الله شركاءَ} أي: أيُّ شيء يتبعون، تحقيراً لهم، أو ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء يقيناً، {إن يتبعون إلا الظنَّ} وما سولت لهم أنفسهم، {وإن هم إلا يخرصُون}: يكذبون فيما ينسبون إلى الله، أو يحزرُون ويقدرون أنها شركاء تقديراً باطلاً، بل الواجب أن يعبدوا من عمت قدرته ونعمُه على خلقه، ولذلك قال: {هو الذي جعل لكم الليلَ لتسكنوا فيه} راحة لأبدانكم، {والنهارَ مبصراً} طلباً لمعاشكم، وفيه تنبيه على كمال قدرته وعظيم نعمته، ليدُلهم على تفرده باستحقاق العبادة {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} سماع تدبر واعتبار. الإشارة: كل من ركن إلى شيء دون الله، محبة أو خوفاً أو طمعاً فيه، فقد أشرك مع الله، ولم يتبع إلا الظن والوهم، وفي الحِكَم: «ما قادك شيءٌ مثلُ الوهم، أنت حرٌ مما أنت آيس، وعبد لما أنت فيه طامع، فكيف يترك العبد سيده الذي بيده ملك السماوات والأرض، ويتعلق بعبد مثله حقير؟. يترك الملك الكبير ويتعلق بالعبد الصغير». هو الذي جعل ليل القبض لتسكنوا فيه عن التعلق بالغير، ونهار البسط لتبصروا في انتشاركم الحقائق العرفانية والأسرار الربانية، إن كنتم تسمعون به ومنه، فتنزهونه عما لا يليق به.
{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)} قلت: (عندكم): متعلق بالاستقرار، و(من سلطان) فاعل به؛ لأن المجرور والظرف إذا نفى يرفع الفاعل بالاستقرار، و(متاع): خبر، أي: ذلك متاع... الخ. يقول الحق جل جلاله: {قالوا} أي: المشركون، ومن تبعهم: {اتخذ الله ولداً} أي: تبنّاه كالملائكة وغيرهم، {سبحانه} أي: تنزيهاً له عما يقول الظالمون، فإن التبني لا يصح إلا ممن يتصور منه الولد، {هو الغني} عن كل شيء، مفتقر إليه كلُّ شيء، والولد مسبب عن الحاجة، والحق تعالى {له ما في السماوات وما في والأرض} ملكاً وعبيداً، فلا يفتقر إلى اتخاذ الولد، وهو الغني بالإطلاق، لا يحتاج إلى من يعينه، واجب الوجود لا يفتقر إلى من يخلفة في ملكه. {إن عندكم} أي: ما عندكم {من سلطان} أي: برهان {بهذا}، بل افتريتموه من عندكم، {أتقون على الله ما لا تعلمون}، وهو توبيخ وتقريع على اختلاقهم وجهلهم، وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وأن العقائد لا بد فيها من قاطع، وأن التقليد فيها غير سائغ. قاله البيضاوي. قلت: والتحقيق أن إيمان المقلّد صحيح، وأن تقليد الأنبياء والرسل والكتب السماوية صحيح مكتفٍ عن الدليل. ثم هدد أهل الشرك فقال: {قل إن الذين يفترون على الله الكذبَ} باتخاذ الولد وإضافة الشريك إليه، {لا يُفلحون}: لا ينجون من النار، ولا يفوزون بالجنة، إنما ذلك الافتراء {متاع في الدنيا} يقيمون به رئاستهم في الكفر، فيتمتعون به قليلاً، أو لهم تمتع في الدنيا مدة أعمارهم، {ثم إلينا مرجعُهُم} بالموت، فيلقون الشقاء المؤبد، {ثم نُذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}. الإشارة: إظهار الكائنات من الغيب إلى الشهادة كلها على حد سواء في الاختراع والافتقار، ليس بعضها أقرب من بعض، وأما قوله: عليه الصلاة والسلام: «الخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ وَأَحَبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لِعِيَالِهِ». فمعناه أنهم في حفظه وكفالته مفتقرون إليه في إيصال المادة، كافتقار الولد إلى أبيه. وأما قرب العبد من ربه بطاعته فمعناه قرب محبة ورضا، لا قرب مسافة أو نسب؛ إذ أوصاف العبودية غير مجانسة لأوصاف الربوبية، بل هي بعيدة منها مع شدة قربها، ولذلك قال في الحِكَم: «إلهي ما أقربَكَ مِنَّي وما أَبعَدَني عنك...» الخ، وقد تشرق على العبد أنوار الربوبية فتكسوه حتى يغيب عن حسه ورسمه فلا يرى إلا أنوار ربه، فربما تغلبه الأنوار، فيدَّعي الاتحاد أو الحلول، وهو معذور عند أهل الباطن لسكره، وقد رفع التكليف عن السكران، فإذا صحى وبقي على دعواه قُتل شرعاً. والله تعالى أعلم.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} قلت: (وشركاءكم): مفعول معه، أو بفعل محذوف، أي: اعزموا أمركم وأجمعُوا شركاءكم ومن قرأ: «اجمَعُوا» بهمزة وصل فشركاءكم: معطوف، و«غمة»: خفيّا، وفي الحديث: «فَإنْ غُمَّ عَلَيكُمْ فَاقدَروا لَهُ». يقول الحق جل جلاله: {واتل عليهم نبأ نوحٍٍ} أي: خبره مع قومه، قيل: اسمه عبد الغفار، وسمي نوحاً لكثرة نَوحه من هيبة ربه، {إذ قال لقومه يا قوم إن كان كَبُرَ} أي: عَظُمَ وشقَّ {عليكم مقامي} أي: كوني بين أظهركم، وإقامتي بينكم مدة مديدة أذكركم بالله، أو قيامي علّيكم لوعظكم، أو نفسي ووجودي بينكم، {وتذكيري} لكم {بآيات الله} أدعوكم بها إلى الله، {فعلى الله توكلتُ}: وثقت به، فلا أبالي ببعدكم عني وتخويفكم إياي، {فأجمعُوا أمرَكم} أي: اعزموا عليه، {وشركاءَكم} مع شركائكم، أو وأمر شركائكم، أو أجْمِعُوا أمركم واتَّفَِقُوا عليه وأجمِعُوا شركاءكم. والمعنى: أنه أمرهم بالعزم والإجماع على قصده، والسعي في إهلاكه، على أي وجه يمكنهم؛ لشدة ثقته بالله وعدم مبالاته بهم. {ثم لا يكن أمرُكم} في قصد إهلاكي {عليكم غُمَّة}: مستوراً خفيَّاً، بل اجعلوه ظاهراً مكشوفاً تتمكنون فيه، لأن من يكتم أمراً ويخفيه لا يقدر أن يفعل ما يريد، أو ثم لا يكن حالكم عليكم غمَّاً، أي: لا يلحقكم غم إذا أهلكتموني وتخلصتم من ثقل مقامي وتذكيري. {ثم اقْضُوا} أي: انفذوا قضاءكم {إليَّ} فيما تريدون. وقرأ السري بن يَنْعَم: «أفضوا» بالفاء وقطع الهمزة، أي: انتهوا إليَّ بشرِّكم، {ولا تُنظرون}: ولا تمهلون. {فإن توليتم}: أعرضتم عن تذكيري، {فما سألتُكم من أجرٍ} يوجب توليكم وإعراضكم لثقله عليكم. واتهامكم إياي لأجله، أو يفوتني إذا توليتم عني، {إنْ أجْرِيَ}: ما ثوابي على الدعوة والتذكير {إلا على اللهِ} لا تعلق لي بشيء دونه، آمنتم أو توليتم، {وأُمرتُ أن أكون من المسلمين} المنقادين لحكمه، لا أخالف أمره. ولا أرجو غيره. {فكذّبوه}: فأصروا على تكذيبه بعد إلزامهم الحجة، وتبين ان توليهم ليس إلا لعنادهم وتمرُّدهم فلا جرَم حقت عليهم كلمة العذاب، فهلكوا بالغرق، {فنجيناه ومن} آمن {معه في الفلك}، وكانوا ثمانين، {وجعلناهم خلائفَ} عمروا الأرض بعد الهالكين وخلفوهم فيها، ولم يُعقب منهم إلا أولاد نوح عليه السلام، {وأغرقنا الذين كذَّبوا بآياتنا} بالطوفان، {فانظرْ كيف كان عاقبةُ المنذَرين}، تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن كذب الرسول، وتسلية له. والله تعالى أعلم. الإشارة: لا يكون الرجل كامل اليقين حتى يسقط من قبله خوف المخلوقين، فلا يبالي بهم ولو أجمعوا على كيده، إذ ليس بيدهم شيء، وإنما أمْرهم بيد الله، ويقول لهم كما قال نوح عليه السلام: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم}. وكما قال هود عليه السلام {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 55 56]. وفي الحديث: «لو اجْتَمَعَ الخَلْقُ كَلُهمْ عَلَى أن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيءٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيكَ، جَفْتِ الأقلامُ وطُويت الصُّحُفُ». وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم «لا يَكمُلُ إيمَانُ العَبدِ حتَّى يَكُون الناسُ عندَه كالأباعد». يعني لا يهابهم ولا يراقبهم. وبالله التوفيق.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)} قلت: (بما كذبوا به) ذكر هنا الرابط، وحذفه في سورة الأعراف، إشارة إلى جواز الأمرين، وإليه أشار في الألفية، بقوله: كذَا الذي جُرَّ بما الموصُولُ جَر *** ك «مُرَّ بالّذي مررْتُ فَهْو بَر» يقول الحق جل جلاله: {ثم بعثنا من بعده}: من بعد نوح عليه السلام {رسلاً}؛ كهود وصالح وإبراهيم وغيرهم {إلى قومهم}، كل رسول إلى قومه، {فجاؤوهم بالبينات}: بالمعجزات الواضحات المثبتة لدعواهم، {فما كانوا ليؤمنوا}؛ فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر، ولسبق شقاوتهم، فما آمنوا {بما كذَّبوا به من قبل} مجيئهم المعجزات، يعني أنهم طلبوا المعجزات ليؤمنوا، فلما جاءتهم استمروا على تكذيبهم، {كذلك نطبع على قلوب المعتدين} فلا تنفع فيهم معجزة ولا تذكير، وفيه دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله، مع إثبات كسب العبد لقيام عالم الحكمة الذي هو رداء لتصرف القدرة. والله تعالى أعلم. الإشارة: كما بعث الله في كل أمة رسولاً يذكرهم ويدعوهم إلى الله، بعث الله في كل عصر وليَّاً عارفاً، يدعو الخلق إلى معرفة الله وتوحيده الخاص، فمن سبقت له العناية آمن به من غير طلب آية، ومن سبق له الخذلان لا يصدق به ولو راى ألف برهان. وبالله التوفيق.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)} الحق جل جلاله: {ثم بعثنا}، من بعد هؤلاء الرسل {موسى وهارون إلى فرعون ومَلَئه بأياتنا} التسع، {فاستكبروا} عن اتباعها، {وكانوا قوماً مجرمين} معتادين الإجرام، فلذلك تهاونوا برسالة ربهم، واجترؤوا على ردها، {فلما جاءهم الحقُّ من عندنا} وعرفوه، وهو بعثه موسى عليه السلام؛ لتظاهر المعجزات على يديه، القاهرة المزيحة للشك، {قالوا} من فرط تمردهم: {إنَّ هذا} الذي جئت به {لسحرٌ مبين}: ظاهر. {قال} لهم {موسى للحقَّ لمَّا جاءكم} إنه سحر، فكيف يقدر السحرة على مثله؟ {أسحرٌ هذا}: أيتوهم أحد أن يكون هذا سحراً؟ {ولا يُفلح الساحرون} أي: لو كان سحراً لاضْمَحَلَّ، ولم يُبطل سحرَ السحرة، والعالم بأن الساحر لا يُفلح لا يستعمل السحر، فهذا كله من كلام موسى عليه السلام، أو من تمام قولهم؛ إن جعل قوله: «أسحرٌ هذا» محكياً لقولهم، كأنهم قالوا: أجئتنا بالسحر لتطلب به الفلاح ولا يفلح الساحرون، والأول أرجح. {قالوا أجئتنا لِتَلْفتنا}؛ لتصرفنا {عما وجدنا عليه آباءنَا} من عبادة الأصنام، {وتكون لكما الكبرياءُ في الأرض}: الملك فيها، سمي كبرياء لاتَّصاف الملوك بالتكبر، {وما نحن لكما بمؤمنين}: بمصدّقين. الإشارة: السحر على قسمين: سحر يسحر القلوب إلى حضرة الرحمن، وسحر يسحرها إلى حضرة الشيطان، فالسحر الذي يسحر إلى حضرة الرَّحمن: هو ما جاءت به الأنبياء والرسل، وقامت به الأولياء بعدهم من الأمور التي تقرب إلى حضرة، إما ما يتعلق بالظواهر، كتبيين الشرائع، وإمّا ما يتعلق بالبواطن، كتبيين الطرائق والأمور التي تُشرق بها أسرارُ الحقائق، وأما السحر الذي يسحر إلى حضرة الشيطان: فكل ما يشغل عن ذكر الرَّحمن، ولذلك قال عليه السلام: «اتَّقُوا الدُّنيا فإنَّها أَسْحَرُ مَنْ هَارُوت ومَارُوت».
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)} قلت: (ما جئتم به) موصوله على من قرأ: «السحر» بلا استفهام، ومن قرأ بالاستفهام ف «ما» مبتدأ و(جئتم) خبرها، و(السحر): بدل منه، أو خبر لمحذوف، أي: أهو السحر؟ أو مبتدأ حذف خبره، أي: السحر هو. يقول الحق جل جلاله: {وقال فرعونُ} لما أراد معارضة موسى عليه السلام: {ائتوني بكلِّ ساحرٍ}، في قراءة الأخوين «سحَّار» {عليم}: حاذق في فنه، {فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون}، {فلما ألقَوا} حبالهم وعصيهم، فانقلبت حَيَّات في أعين الناس، يركب بعضها بعضاً، {قال} لهم {موسى ما جئتم به السحر} أي: الذي جئتم به هو السحر، لا ما سماه فرعون وقومه سحراً من معجزات العصا. وقرأ البصري: «آلسحر» أي: أيّ شيء جئتم به السحر هو؟ {إن الله سيُبْطلُه}: سيمحقه، أو سيظهر بطلانه، {إن الله لا يُصلح عملَ المفسدين} لا يثيبه ولا يديمُه، وفيه دليل على أن السحر تمويه لا حقيقة له، {ويُحقُّ الله الحقَّ بكلماته} السابقة الأزلية، أو بأوامره وقضاياه، {ولو كره المجرمون} ذلك. الإشارة: الأكوان كلها عند اهل التحقيق شعوذة سحرية، خيالية كخيال السحر الذي يظهره المشعوذ، تظهر ثم تبطن، وليس في الوجود حقيقة إلا الواحد الأحد الفرد الصمد، فهي ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، وهي أيضاً أشبه شيء بالظلال، والظلال لا وجود لها من ذاتها، وإنما تابعة لشواخصها، ولذلك قالوا: ظلال الأشجار لا تعرق السفن عن التِّسْيار، فظلال الأكوان وأجرامها لا تعوق سفن الأفكار عن التسيار في بحار معاني الأسرار، بل تغيب عن ظلال حسها إلى فضاء شهود معانيها، فالعارف لا يحجبه عن الله شيء؛ لنفوذه إلى شهود أسرار الربوبية في كل شيء، والله تعالى أعلم.
{فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)} قلت: الضمير في «ملئهم» يعود على فرعون، وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء، أو باعتبار آل فرعون، كما يقال: ربيعة ومُضَر، أو على الذرية، أو على «قومه» و(ان يفتنهم) بدل من فرعون، أو مفعول بخوف، وأفرد ضمير الفاعل، فلم يقل: أن يفتنوهم؛ للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسبب فرعون. يقول الحق جل جلاله: {فما آمنَ لموسى} أي: صدّقه في أول مبعثه {إلا ذريةٌ}: إلا شباب وفتيان {من قومه}: من بني إسرائيل، آمنوا {على خوفٍ من فرعون وملئهم} أي: مع خوف من فرعون وقومه، أو على خوف من فرعون وملأ بني إسرائيل؛ لأن الأكابر من بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من الإيمان خوفاً من فرعون، وهذا أرجح. خافوا {أن يفتنهم}: يعذبهم حتى يردهم عن دينهم، {وأن فرعونَ لعالٍ في الأرض}: لغالب فيها، {وإنه لَمِن المسرفين} في الكفر والعُتُوِّ حتى ادعى الربوبية، واسترقَّ أسباط الأنبياء. الإشارة: أهل التصديق بأهل الخصوصية قليل في كل زمان، وإيذاء المنتسبين لهم سنة جارية في كل أوان، فكل زمان له فراعين يُؤذون المنتسبين، والعاقبة للمتقين.
|